القرية ليست ترفًا
زرنا طاوي الريثي لنشهد معه المعالم الطبيعية المتنوعة في جبل الفارس في محافظة الريث بجازان، ونسمع منه عن الحلول التي وضعها للحد من أذى القرود.
بعد مسير أكثر من عشر ساعات من الرياض إلى جبال القهر في جازان، وما إن وصلنا إلى بداية الطريق الجبلي إلى قرية الشامية إلا وعلامات التعب والإنهاك تلمحها في عيوننا من وعورة الطريق وصعوبة منعطفاته التي تتطلب حذرًا وإقدامًا في آن واحد. حتى صعدنا أعلى الجبل، فإذا الهواء ليس كالهواء وإذا بالأرض ليست كالأرض. جبال القهر صنعة ربانية فريدة، وكأنها حمم كبيرة جدًا متلاصقة ومرصوفة بلون الحنطة، تميل للسمرة في بعض أماكنها. وفي كل مرة أرتقي لها أسأل نفسي: يا تُرى كيف وصل إليها سكانها؟
توقفت بشكل مفاجئ وانطلقت سريعًا للمطل وأنا «أعشم» صاحبي أبا فاطمة بمنظر لم يسبق له رؤيته من قبل.
«أوه يا محمد وش هالجمال» – قالها بعد لحظة صمت من دهشته، وأخرج كاميرته وبدأ يلتقط الصور هنا وهناك. قلت له: لم تر شيئًا بعد ولكن «الهمام الهمام»، فأمامنا ما يقارب ساعة أخرى بين تلك الشقوق الجبلية حتى نصل لوجهتنا، قرية الشامية. استنشقنا الهواء العليل وركبنا السيارة وأخذنا نبحر في مسارات متعرجة صعودًا ونزولًا، يمنة ويسرة، أحيانًا نسير في أخاديد وأحيانًا تحفنا المزارع.
حتى لما ألفنا وعورة الطريق تبدّت لنا قرية الشامية على هيأة بيوت مترامية وبينها حقول زراعية. الهدوء ساحر، وصوت العصافير المميزة سيرافقك في الخلفية، وهناك رائحة خاصة لأرض الجبل. دعني أنقلك معي لمشاهد وخواطر، بعد انتهائنا من التصوير هناك.
أول ما رآني العم محمد حاملًا الكاميرا على عنقي قال لي: تعال أبيك تصور سد للمياه بنيته السنة الماضية. أول ما شفته تعجبت! كيف تجمعت المياه في هذا السد لعمق أكثر من عشرة أمتار خلال سنة تقريبًا؟! وما أعجبني أكثر هو جمال المكان بعد أن امتلأ بالماء. التفتّ إليه مازحًا، قلت: «هالمكان ودك تسبح فيه». فابتسم لي، ولكنه استنكر الفكرة. قال لي: يا محمد هذه المياه «حنا» ما جمعناها إلا للشرب ولمزارعنا و«مستحيل نسمح لأحد» يعبث فيها! قلت له: اشرح لي أكثر. قال: في الجبل لا يوجد مصدر للمياه إلا المطر، فـ«حنا» تكيفنا مع هذه الحاجة وبنينا السدود والبرك حتى نجمع مياهها. «الوايت حق المويه صعب يطلع هنا ومكلف». قلت: عجيب سبحان الله لأول مرة أدري «إن فيه ناس» يعيشون على مياه الأمطار عندنا.
وهنا لقطة أخرى تشد الزائر للوهلة الأولى وتدغدغ مشاعره، بل ربما يُعلق أحدهم ويقول لك: أوه طريقتهم في الزراعة أصيلة و«organic»، لكن القليل منا ربما يستوعب، على الجهة الأخرى، أن الفلاح فيصل الريثي، الذي يظهر في الصورة، يعيش لحظة فارقة في كل موسم. عندما يبذر البذور تجده يعيش حالة نفسية من الترقب والتوكل، فهو لا يعلم إن كانت هذه البذور ستحيا وإن نمت كيف ستكون صلاحيتها، وهل ستكون الظروف الطبيعية في مصلحته أم أن هناك بعض التحديات بالمرصاد كالقرود والجراد. وللأمانة، هذه الزاوية من التفكير ما تبينت لي من الزيارة الأولى،ولكن بعد ذهاب غشاوة النشوة الأولى يبدأ يتكشف لك الواقع.
في كل مرة أزور فيها قرية الشامية أجد فيها هذه اللوحة من الكبَد والحياة بشكل واضح للبقاء على قيد الحياة، التي ستستطعمها في كل فعل من أفعالهم اليومية من الزراعة والحصاد والصيد والرعي وغيرها. وكلها تتطلب مجهودًا بدنيًا عاليًا ومواظبة ومسؤولية وتعاونًا. آمنت بأن للقرى نظامًا معيشيًا مختلفًا عن المدن، وأن الحياة هناك مع بساطتها ليست ترفًا.
وثائقيات «فلان» عن الإنسان المحلي وارتباطاته بالعالم من حوله.