الصين: بين مدن الأشباح وفقاعة العقار

تحاول الصين بناء مستقبل فوق أرض يتآكل عدد سكانها، فيما تقف ناطحات السحاب شاهدًا صامتًا على مفارقة وجودية تهدد اقتصادها.


في بلد تتجاوز فيه نسبة التملّك 90% ومع هذا تظل ملايين الشقق فاضية.. كيف؟ وليش؟

في حلقتنا الثالثة من رحلتنا في شرح الصين، نستكمل قصة الصعود، ونغوص أكثر في الكواليس اللي جعلت من العقار قصة غريبة في الصين، وقد تكون فقاعة تهدد ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

من بعيد، كانت الصورة تبدو برّاقة: ناطحات سحاب، مدن كاملة بنيت في سنوات، وثقة تامة في الإسمنت كأداة ادخار قبل لا يكون سكن. لكن تحت السطح، تكمن الأزمة.

حلقة تعمّق فهمك للعقار في سياق الاقتصاد والسياسة في الصين، يقدمها الثنائي الرهيب والمُحسن في شرح الصين: محمد آل جابر وهادي فقيهي، بأسلوبهم اللي يخليك تشوف أو تسمع الحلقة من قلب بكين، وأنت في بيتك.


ليش الصين فيها 100 مليون وحدة سكنية فاضية؟

يوجد في الصين أكثر من 60 إلى 100 مليون وحدة سكنية غير مأهولة، تكفي لإيواء سكان دول كاملة. لكن، حتى نفهم كيف وصلوا إلى هذه النقطة، لا بد من العودة قليلًا إلى الوراء، وتحديدًا إلى «الطفرة والانفجار» في السوق العقارية.

بين 2018 و2019، كانت أسعار الوحدات السكنية الجديدة في 70 مدينة صينية ترتفع بنسبة سنوية تفوق 10% كما يوضح الرسم البياني. كان الناس يشترون شققًا لا لأجل السكن؛ إنما لكونها استثمارًا مضمونًا. والدولة كانت تغض الطرف عن ذلك. 

لكن، بدأت الفقاعة تفرغ، ففي عام 2021، أعلنت شركة «Evergrande»، أكبر مطور عقاري في الصين، إفلاسها. ثم لحقتها شركات أخرى، مثل «Country Garden»، وبدأ الانهيار الكبير. في الوقت نفسه، كانت الحكومة الصينية تضغط على السوق لأجل خفض الأسعار ومنع تشكل فقاعة سكنية، لكن جاءت أزمة كوفيد والركود الاقتصادي العالمي ليكونا ضربة قاسية.

منذ يوليو 2022، دخلت الأسعار مرحلة «النمو السلبي». وبحلول يوليو 2023، انخفضت الأسعار سنويًّا بنسبة 0.1% لأول مرة منذ سنوات. لم يكن التباطؤ مجرد تصحيح، إنما «إعادة تعريف» للسوق العقارية الصينية.

الزبدة 🧈

 لماذا توجد 100 مليون وحدة سكنية فارغة؟ لأن:

  • الشقق أصبحت «أصلًا ماليًّا» أكثر من كونها مكانًا للسكن.

  • كانت الشركات تبني أكثر من الحاجة لأجل مواكبة توقعات النمو.

  • فجأة، تباطأ الطلب، وانهارت السلاسل التمويلية، وبقيت الشقق بلا مشترين.


فاصل ⏸️

«برق» محفظة تقنيّة ماليّة💸

الخدمات، البطاقات، والمنتجات ما عليها أي رسوم.

والكاش باك، على الحوالات الدولية وتحويل رواتب العمالة، وبطاقة فيزا ومدى!

محفظة .. تعطيك ما تأخذ منك!


تصميم: وفاء العتيبي
تصميم: وفاء العتيبي

الصين ستفقد نصف سكانها

منذ أن تجاوزت الهند الصين في عدد السكان عام 2023، دخلت الصين مرحلة لم تعد فقط موضع مقارنة ديموغرافية، إنما تحوّلت إلى مختبر عالمي لانكماش غير مسبوق في عدد السكان. فوفق تقرير الأمم المتحدة، يُتوقّع أن يتراجع عدد سكان الصين اليوم من 1.4 مليار نسمة إلى 770 مليون نسمة في عام 2100. وفي سيناريو أكثر تشاؤمًا، قد يصل إلى 494 مليونًا فقط.

هذا التحوّل لم يأتِ فجأة؛ فقد تبنّت الصين عام 1979 سياسة «الطفل الواحد» بهدف الحدّ من الانفجار السكاني، لكنها مع مرور الزمن خلقت أزمة ديموغرافية عميقة. استمرت هذه السياسة لأكثر من 35 سنة، وفُرضت بموجبها غرامات، وحُرمت العائلات من بعض الخدمات العامة، وتسببت في اختلال كبير بين عدد الذكور والإناث. ورغم إلغائها عام 2016 والسماح بطفلين، ثم السماح بثلاثة في 2021، فإن أثرها النفسي والاجتماعي ما زال حاضرًا؛ إذ تغيّرت سلوكيات الناس تجاه الزواج والإنجاب بشكل يصعب عكسه.

هذا الانكماش ليس رقميًّا فحسب؛ بل إنه يعيد رسم خريطة المستقبل الصيني. فالمجتمع الذي اعتاد أن يقود العالم بوفرة اليد العاملة وانفجار الاستهلاك الداخلي، بدأ يشهد انعكاس الهرم السكاني. في عام 1980، كان المجتمع شابًّا بامتياز، أما في 2020، فقد بدأ «الانتفاخ» في منتصف الهرم، أي في الفئة العمرية بين 30 - 59 عامًا. وابتداءً من 2050 سيصعد هذا الانتفاخ إلى أعلى الهرم، مشكّلًا أكبر كتلة سكانية من كبار السن في تاريخ الصين.

اعتمد توقّع الأمم المتحدة على معدل خصوبة ثابت يبلغ 1.18 طفل لكل امرأة. وهذا الرقم، على بساطته، يحمل في طيّاته انهيارًا اجتماعيًّا؛ لأنه أقل بكثير من معدل الإحلال البالغ 2.1. وإذا ما استمر هذا المعدل، فإن التراجع السكاني سيأخذ طابعًا متسارعًا غير قابل للعكس.

اليوم، تُظهر أرقام عام 2020 أن نسبة الإعالة في الصين (أي عدد المُعالين لكل 100 عامل) كانت 44، ولكن بحلول 2085، ستصل إلى 89، مما يعني أن كل عامل سيعيل تقريبًا شخصًا آخر لا يعمل. وهذا ليس رقمًا اقتصاديًّا فقط، إنما اختلال في ميزان التماسك الاجتماعي.

الأزمة لا تقف عند الرقم، فالسياسات الحكومية المتعاقبة -من سياسة الطفل الواحد في 1979، إلى السماح بثلاثة أطفال في 2021- لم تنجح في تغيير القناعات المجتمعية. حتى خطاب الرئيس شي جين بينق في مؤتمر المرأة الوطني عام 2023، الذي دعا فيه إلى «ثقافة زواج وإنجاب جديدة»، لم يُقنع الجيل الجديد الذي يرى في الإنجاب عبئًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا.

الصين اليوم أمام مفارقة: أكبر دولة ركّزت على التصنيع الجماعي، أصبحت مهددة بشح في القوى العاملة. وبلد بنى نماذج نموه على التمدن والهجرة من الأرياف إلى المدن، يجد نفسه أمام مجتمعات مدنية تشيخ بسرعة، دون أجيال تواكب النمو الصناعي.

وإذا ارتفع معدل الخصوبة تدريجيًّا ووصل إلى 2.1 بحلول نهاية القرن، فإن عدد السكان سيستقر عند 1.2 مليار. وهذا المسار، على مافيه من تفاؤل، يُعدّ أقرب إلى التمنّي دون مؤشرات عملية قوية حتى الآن.

ومع ذلك، يكمن الأمل في قدرة الصين على التكيّف. فمنذ عام 2019، طرحت الحكومة خططًا طويلة المدى للاستجابة للشيخوخة، منها رفع سن التقاعد تدريجيًّا وتطوير قطاع الرعاية وتوفير خدمات دعم الأمهات. وهناك تجارب رائدة، مثل منصة إلكترونية في شنقهاي لربط الأسر بمقدمي الرعاية لكبار السن.

الزبدة 🧈

قصة التناقص السكاني تختبر قدرة الصين على إعادة تعريف ذاتها، وهي تخوض صراعًا صامتًا مع الزمن، تحاول فيه أن تُقيم مستقبلًا فوق أرض يتآكل أساسها العددي يومًا بعد يوم.


كيف تتخيّل بيت العمر؟ 💭

مسكن متكامل ومريح، موقعه قريب من كل شي، وفيه كل شي 🏡✨

موقفك الخاص، مصلى، مقهى،بقالة، صالة رياضية، وترفيهية!

هذي هي تجربة السكن في صفا 🔗

التجربة اللي تسبق الحاضر وتنبض بالحياة 🖼️🥁


طلّق أولًا، ثم اشترِ بيتًا في الصين


من أغرب السلوكيات الناتجة عن تشوّه سوق العقار في الصين هو لجوء عدد كبير من الأزواج إلى «الطلاق الصوري»، فقط للتحايل على قوانين تملّك العقار. 

في قلب الأزمة العقارية المتضخمة في الصين، أطلقت الحكومة حملة تنظيمية لمحاولة السيطرة على فوضى التملّك والمضاربة العقارية. كانت إحدى أدواتها قوانين تمنع بشكل صارم امتلاك أكثر من عقار بسهولة. وفُرضت شروط مجحفة ماليًّا على من يود شراء بيت ثانٍ، أبرزها رفع الدفعة المقدمة إلى مستويات خانقة. وُلدت هذه السياسة من نية ضبط السوق، لكنها اصطدمت مباشرة مع رغبة المواطن الصيني في تأمين مستقبله من خلال العقار، الذي أصبح أشبه بحساب توفير ملموس.

ففي محاولة للحد من المضاربة وارتفاع الأسعار، فرضت الحكومة الصينية قيودًا مشدَّدة على شراء المنزل الثاني، من أبرزها اشتراط دفعة مقدمة مرتفعة قد تتجاوز 60% مما جعل شراء بيت إضافي عبئًا ماليًّا كبيرًا. ونتيجة لذلك، بدأ كثير من الأزواج تسجيل الطلاق قانونيًّا مع بقائهم فعليًّا في علاقة زوجية غير رسمية؛ حتى يتمكن كل طرف من الاستفادة من امتيازات شراء البيت الأول بشروط ميسّرة.

هذا التصرّف، مع كونه قانونيًّا من الناحية الشكلية، يعكس حجم التشوّه الذي خلقته السياسات العقارية، ومدى استعداد الأفراد لتجاوز البُنى الاجتماعية التقليدية في سبيل تحقيق مكاسب مالية، حتى لو كان ذلك على حساب استقرار الأسرة أو ثقة القانون في عقود الزواج.

وش كانت ردة فعل الناس؟

كالعادة، حين يضيق القانون، يتمدد الخيال الشعبي. فالصينيون، الذين اعتادوا على التعامل مع اقتصاد مركزي صارم، وجدوا ثغرة غير متوقعة: الطلاق. بدأ الأزواج تقديم طلبات طلاق صوري، ليس بدافع الخلاف أو الانفصال، إنما حيلة قانونية تجعل كل طرف مؤهلًا لشراء بيت جديد بصفته مالكًا أولًا لا ثانيًا. وتحوّل الطلاق من إجراء عاطفي إلى قرار مالي، ومن قضية اجتماعية إلى أداة استثمارية. وكان بعضهم يعلن علنًا أنهم منفصلون قانونيًّا فقط، لكنهم يعيشون معًا كأيّ زوجين طبيعيين.

السلوك البشري فوق كل شيء

كانت النتيجة انعكاسًا دقيقًا لكيفية تجاوز السلوك البشري حدود التنظيم الحكومي. إذ سُجّل ارتفاع ملحوظ في نسب الطلاق في المدن الكبرى، مثل بكين وشنقهاي، في السنوات التي أعقبت صدور القوانين. وبدأت السلطات تتابع الحالات وتحاول تضييق الخناق عليها، لكنها لم تستطع؛ فالنية ليست جريمة، والمستندات رسمية. ما حدث فعليًّا هو أن الدولة اصطدمت بشيء أعمق من قوانينها: ثقافة الخوف من ضياع الفرصة. في مجتمع تُرى فيه العقارات ضمانة وجودية، يصبح كل شيء قابلًا للتضحية، حتى الزواج.

الزبدة 🧈

هذه لحظة يتقاطع فيها الاقتصاد مع علم النفس، والدولة مع الفرد. يمثلّها الطلاق الصيني لأجل العقار. في النهاية، هذه ليست قصة غريبة بقدر ما هي مرآة تعكس حقيقة أنه لا يمكن أن تتحكم في المنطق حين يتداخل مع النوايا.


يوم فخم مع أفخم شرح للصين في العالم العربي، يصنع في بيت آل جادي.

لعلمكم بس🫠: حسبنا كم مرة قلنا كلمة «الصين» طلعت 743 مرة...


بودكاست جادي
بودكاست جادي
أسبوعية، الأربعاء منثمانيةثمانية

كلّ أربعاء يقدم محمد آل جابر وهادي فقيهي تحليلات وإجابات مبسطة للأسئلة الاقتصادية المحيرة، ومع كل حلقة تصلك رسالة بريدية بمصادر ومعلومات ووجهات نظر مختلفة لم يتسع لها وقت الحلقة.

+20 متابع في آخر 7 أيام