150 مليار ريال تنتظر من يقتنصها
المنظمات لم تواكب بعد النمو المتسارع للقطاع غير الربحي

150 مليار ريال تنتظر من يقتنصها
حينما أُعلنت رؤية السعودية 2030، لم يكُن المقصود تجميل صورة القطاع غير الربحي، بل كان الحديث عن مشروع اقتصادي حقيقي، يُراد منه أن يُسهم بنسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل 250 مليار ريال.
 وبينما تجاوزت مساهمة القطاع حاليًّا في الناتج المحلي الإجمالي نحو 102 مليار ريال، فإن الفجوة المتبقية نحو تحقيق مستهدف 250 مليار ريال هي تقريبًا 150 مليار ريال، ما يعكس نموًّا متوقعًا في النشاط الاقتصادي للمنظمات غير الربحية، تشمل الجمعيات والأوقاف والمبادرات المجتمعية.
لكن، ومع كل هذا الزخم، يبرز هذا السؤال بإلحاح وهدوء: هل لدينا ما يكفي من الكيانات لاستيعاب هذا الحجم من الفرص؟

أرقام تكشف كنزًا خفيًّا
القطاع غير الربحي الذي طالما نظرنا إليه كمساحة خيرية، بدأ في التحول إلى كيان اقتصادي واضح المعالم. فمنذ إعلان ولي العهد عن أن القطاع غير الربحي جزءٌ من المشروع الاقتصادي الوطني، تضاعفت مساهمته في الناتج المحلي من 1.2% إلى 3.3%، وقفز عدد المنظمات فيه من 2,600 إلى أكثر من 62 ألف جهة في أقل من سبع سنوات، بينما تخطّى عدد المتطوعين حاجز المليون. بل إن بعض الكيانات الكبرى كالمستشفيات والجامعات ومراكز الأبحاث بدأت تتحول إلى مؤسسات مستقلة غير ربحية، على غرار مستشفى الملك فيصل التخصصي، ومستشفى الملك خالد التخصصي للعيون.
ولكن المفارقة هنا: أن النسبة الكبرى من هذا النمو جاءت من مبادرات حكومية مباشرة، لا من كيانات مستقلة.

رفعَ النموُّ السريع للقطاع غير الربحي سقفَ التوقعات على المنفذين، بينما لا تزال بنيته في طور التأسيس. فالنمو المالي رفع طموحات الدولة والمجتمع تجاهه، لكن البنية المؤسسية من القوانين والمهارات وشركات المساندة ما زالت غير مكتملة، مما خلق فجوة بين التطلعات والقدرة الفعلية على التنفيذ.
والواقع أننا، إذا قارنّا عدد الكيانات غير الربحية لكل ألف شخص في السعودية، نجده أقل بكثير من مثيلاتها في الدول المتقدمة. وهذا الفارق لا يعكس ضعفًا في الإمكانيات، بل فجوة في التأسيس.

لدينا اقتصاد غير ربحي ينمو بسرعة، لكنه يفتقر إلى قاعدة تجارية مرنة تُترجم هذا الزخم إلى مشاريع مستدامة على الأرض. وأكثر من 70% من هذه الكيانات تتركّز في أربعة مجالات فقط، بينما تغيب تمامًا في مجالات مثل التقنية والابتكار والبيئة. وتُظهر بيانات الهيئة العامة للإحصاء أن الشركات غير الربحية أصبحت تشكّل 45.5% من إجمالي الكيانات في القطاع، متقدمةً على الجمعيات الأهلية والأوقاف، وهو مؤشر على التحول نحو نماذج مؤسسية أكثر احترافية واستدامة.


أين القطاع الخاص؟
تجاوز القطاع غير الربحي حاجز 100 مليار ريال عام 2023. ومع ذلك، لا يزال حضور القطاع الخاص خجولًا؛ فالمبادرات في مجال الاستثمار الاجتماعي والخدمات وحاضنات الأعمال أو مسرّعاتها، لا تزال محدودة ولا تتناسب مع حجم الفرص المتاحة.
القطاع الخاص بطبيعته لا ينجذب إلا لمخاطر محسوبة وعائد واضح، وما دام الخطاب السائد يخلط بين «التبرع» و«الاستثمار»، فستظل الفجوة قائمة. وهنا تظهر أهمية فهم مستويات العطاء في السعودية، فهي تنقسم إلى:
العطاء المؤسسي: عبر كيانات منظمة مثل الجمعيات والأوقاف وصناديق العائلة.
العطاء العفوي: عبر فرق ومبادرات مجتمعية غير رسمية، كالأندية والفرق التطوعية.
العطاء من خلال كيان قائم: كالمشاركة في منصات التبرع الرسمية أو التطوع مع جهة موجودة.
والفرصة الكبرى اليوم تكمن في تحويل العطاء المؤسسي إلى استثمار اجتماعي مستدام، عبر كيانات تعمل بعقلية تجارية وتنفيذ احترافي، لكنها تخدم أهدافًا مجتمعية واضحة.
من أين تبدأ؟
القطاع مليء بالثغرات التي يمكن تحويلها إلى مشاريع ناجحة إذا قُرئت بعين تجارية ونُفّذت باحتراف. هناك خمسة مجالات رئيسة تمثل فرصًا مباشرة للبناء:
1. الخدمات التقنية
القطاع يحتاج أنظمة ذكية لإدارة التبرعات والتطوع والمنح. ولا توجد حتى الآن حلول سعودية كافية.
صحيح أن هناك مبادرات تقنية وطنية ناجحة، مثل منصة «إحسان» ومنصات التبرع الرسمية، لكنها تركز غالبًا على تسهيل الرعاية والإحسان الفردي، بينما تظل الفرصة مفتوحة لبناء حلول تنموية متقدمة تُعزز إدارة الأثر والحوكمة وتخطيط الموارد داخل الجهات غير الربحية.
ومن النماذج المحلية الناجحة نظام رافد الإلكتروني، المسجل في الهيئة السعودية للملكية الفكرية، والذي يخدم أكثر من 1,100 جمعية في السعودية عبر منصة متكاملة لإدارة العضويات والموارد المالية والبرامج والتقارير، مما يثبت أن الحلول التقنية المحلية قادرة على تحقيق أثر واسع وانتشار سريع.
2. تشغيل الخدمات والمراكز
العديد من الجهات غير الربحية تملك التمويل، لكنها تفتقر إلى الخبرة التشغيلية. هناك فرصة لشركات محترفة لإدارة البرامج والمراكز بعقود موسمية.
3. المحتوى والإعلام
تبرز فرصة لشركات الإعلام وصناعة المحتوى لتطوير رسائل مؤثرة تبني الثقة وتُبرز أثر القطاع غير الربحي بأسلوب احترافي.
4. التدريب والاستشارات
مراكز التدريب المتخصصة في العمل غير الربحي ما زالت محدودة، وهو ما ينعكس في ضعف التأهيل في مجالات الحوكمة والتخطيط وبناء الأنظمة.
5. الأوقاف والاستدامة
تمتلك السعودية مئات الأوقاف ذات الأصول الكبيرة، لكن كثيرًا منها لا يحقّق عائدًا يتناسب مع إمكاناته. وهنا تبرز فرصة للمشغّلين والمطوّرين لتقديم حلول استثمارية وتشغيلية وابتكارات رقمية تعزز كفاءة الإدارة، وتزيد من أثر الأوقاف واستدامتها.
6- تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي
كثير من الجهات غير الربحية لا تملك أدوات لقراءة بياناتها أو قياس أثر برامجها. والفرصة هنا لشركات متخصصة تقدم حلولًا في: تحليل بيانات التبرّع، سلوك المتطوعين، لوحات قياس الأداء، ونماذج تنبؤية باستخدام الذكاء الاصطناعي.
أين تُصرف الأموال؟
تكشف بيانات الهيئة العامة للإحصاء (2023) أن الإنفاق داخل القطاع غير الربحي يتركز في الصحة والتعليم والأبحاث بأكثر من 26 مليار ريال سنويًّا، تليها الخدمات الاجتماعية والثقافة والترفيه. هذه الأرقام لا تعكس فقط أين تُوجَّه الموارد، بل تعطي خريطة طريق لرواد الأعمال لفهم أين تتدفّق السيولة.

نماذج نجحت عالميًّا
الفرص ليست مجرد نظرية. هناك شركات عالمية أثبتت أن القطاع غير الربحي يمكن أن يتحول إلى أعمال مستدامة ومربحة دون أن تخرج من إطار خدمته:

أثر القطاع غير الربحي بحياتك اليومية
نجاح القطاع غير الربحي لم يعُد شأنًا يخص الجمعيات أو أصحاب رؤوس الأموال فحسب، بل بات مسألة تمس مباشرةً كل مواطن. فحين يرتفع متوسط رواتب السعوديين العاملين في هذا القطاع إلى 8,670 ريال مقارنة بـ7,700 ريال في القطاع الخاص، فنحن أمام دلالة لا تخص الأرقام فقط، بل تخص نوعية الوظائف وطبيعة المهنة التي تُمنح للعاملين. أما الخدمات، فلم تعُد كما كانت تُقدّم من باب الإحسان أو سد الحاجة، بل أصبحت تُدار باستثمارات بمليارات الريالات في الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية، تُترجم إلى مراكز طبية وتعليمية أكثر جودة وأقل تكلفة على المواطن. وفي هذا التوسع، تظهر فرص جديدة، ليست للأثرياء فقط، بل للشباب العاديين، الذين أصبح بإمكانهم تأسيس شركات أو مبادرات صغيرة تقدم خدمات تقنية ومالية وتحليلية للجمعيات والمؤسسات الوقفية.
لِمَ لا تكون أنت؟
القطاع لا ينتظر أصحاب الخبرة الطويلة فقط، بل ينتظر جيلًا جديدًا يفكر بطريقة مختلفة، يرى في كل فجوة مشروعًا، وفي كل تحدٍّ فرصة.
لا يزال البعض يسأل: هل في القطاع غير الربحي فرصة؟ والسؤال الأصح: لماذا لا تكون أنت من يصنع نموذج هذا القطاع الجديد.

نشرة شهرية من أحمد الجبرين، تشرح لك ما وراء الأخبار الاقتصادية. تبسِّط الأرقام، وتسلِّط الضوء على الفرص. كيف بدأت؟ وماذا تحقق؟ وإلى أي مدى سيمتد أثرها؟ بلغة واضحة، ومن زاوية تمسّ حياتك اليومية.