قرى عسير: حين تورث الأرض اتزانها
عن أرض عسير التي تورث الإنسان الاتزان وتشكل تفاصيل يومه.
تترك البيئة والتضاريس الجغرافية أثرها في الإنسان والمجتمع. وإن كانت لا تتحكم في طباعهم، إلا أنها تؤثر فيها بلا شك. وإذا أردت أن ترى حضور الجغرافيا في حياة الناس، فأوضح الأمثلة هو الجنوب السعودي؛ بتنوّع تضاريسه وقبائله وعاداته.
تأتي هذه المقالة محاولةً للإجابة عن سؤال كيف تشكّلت حياة الناس هناك في ظلّ تلك الجغرافيا المتنوعة.
نوّاف الحربي


الأودية: ذاكرة اتزانٍ بشري
ميمونه القحطاني
في قرى جنوب غرب عسير، حيث تتعانق الجبال وتمتد الأودية، لا تُقاس الحياة بالساعات ولا بالتقويم، بل بمواسم المطر والحرث والحصاد. هناك، لا تكون الطبيعة خلفيّةً صامتة، بل شريكًا فاعلًا يوجّه الإنسان، ويختبر صبره، ويشكّل تفاصيل يومه.
تبدأ الحكاية من فنجان الشاي عند جدّتي «عَطرة». في جنبات بيتها العتيق، وقت زوال الشمس نحو الغروب.
كانت الطقوس اليومية تأخذ شكل الحكاية.
الشاي كما تحبّه: سُكّرٌ زائد، و«خادر» كما تصفه، تفوح منه رائحة النعناع التي ارتبطت في ذاكرتي بصوتها وهي تقول:
«يا بنتي، الأرض كانت كل شيء، منها نعيش، وفيها نعمل، وعليها نحمد.»
جملة واحدة اختصرت فلسفة جيلٍ عاش بانسجامٍ مع الطبيعة لا ضدّها، وعاش متصالحًا مع إيقاع الأرض كما لو كانت جزءًا من نبضه.
حين تلتقي كبار السنّ في قرى جنوب السعودية، تبهرك حيويتهم: شيخٌ تجاوز السادسة والثمانين يمشي بخطى ثابتة، وجدّةٌ في السبعين بوجهٍ نضرٍ وصوتٍ قويّ.
تتسلّل إلى الذهن أسئلة كثيرة: ما سرّ هذه الصحة؟ وكيف ظلّت الذاكرة يقِظة رغم تعب السنين؟
تقول جدّتي، وكأنها تجيب دون قصد:
«يبدأ يومنا قبل الفجر بساعة، الذي يسمّونه: حلّ القهوة¹؛ تقوم النساء لجلب الحطب وتجهيز الحلال، والرجال يوقدون النار ويعدّون القهوة المبهّرة بالهيل والقرنفل والزنجبيل. ومنها نأخذ دفء النهار ونشاطه.» ذلك الطقس الصباحي كان جزءًا من نظام حياةٍ صارمٍ يضبط الإيقاع اليومي، لأن الحياة هناك تسير على إيقاع حركة الشمس، فالعمل يبدأ مع أول ظهورٍ لشعاعها وينتهي مع غروبها.
هنالك الأرض تنقسم كما الناس: أراضي طينية خصبة على ضفاف الأودية، وأخرى صفراء فسيحة تعتمد على الآبار والمطر الموسمي، ومدرّجات جبلية تشرب من الغيم.
وتُزرع الأرض إما بالزراعة «العَثّرِيّة»²، إذ تُسقى الأرض بماء المطر، أو «بالعِلّا»³ في نظامٍ بدائيٍّ ودقيق في آنٍ واحد.
تتنوع المحاصيل بين البرّ والذرة والشعير، وتُزرع وفق مواسم يعرفها المزارعون كما يعرفون ملامح وجوههم.
كان الناس هناك يعتمدون كليًّا على ما تنتجه الأرض وما تمنحه الماشية، من بُرٍّ وسمن وطعام بسيط لكنه مشبع، يمدّهم بالطاقة والدفء في برد الجبال القارس.
حتى ماء البئر كان له نظامٌ عادل يسمّى «النُّوب»⁴: يومٌ لكل بيت. وكان ملزمًا للناس بلا ورقٍ ولا قانون، فالكلمة وحدها كانت كافية.
تقول جدّتي:
«نسرح بالغنم محمّلين بقرصٍ⁵ أو اثنين، وقِربة ماء، وما نعود إلا قبل الغروب.»
ثم تستطرد:
«وحين تُولد فتاة، يُبشَّر أهل القرية بقولهم: جاتنا راعية غنم. وإذا وُلد ولد قالوا: جانا رجل.»
من هنا تُغرس الهوية منذ اللحظة الأولى، ويتحدّد دور الفرد في المنظومة القروية.
كل شيء هناك منظم بدقة، كأن الأرض نفسها تفرض إيقاعها:
الرجل يتكفّل بالعمل الشاق من حرثٍ وسقيٍ وحراسةٍ للمحصول وحمايته من الطير، والمرأة تجمع السنابل وتربط الحزم وتحملها إلى الجرين⁶ لتجف.
لكل عملٍ وقته، ولكل شخصٍ مكانه في دورة الحياة. لم يكُن هناك فراغٌ ولا خلاف، لأن التعاون كان شرط البقاء.
وفي هذا التناغم بين الإنسان والأرض، تشكّلت صحتهم، واشتدت عزائمهم، وثبتت ذاكرتهم كصخر الجبال التي عاشوا عليها. لقد عوّدهم الحقل على الصبر، والروتين على الانضباط، والمجتمع على أن البقاء ليس فرديًّا أبدًا، بل جماعيٌّ كنبض القلب في جسدٍ واحد. وربما كان روتينهم الجادّ والبسيط، والتزامهم التامّ به، هو السرّ الخفي وراء صحتهم.
فلا شيء هناك يبدّد الوقت أو يشتّت الذهن؛ تكرار المهام اليومية والحركة الدائمة بين الحقل والبيت صقلت أجسادهم ومنحتهم قوّةً عضلية، وذهنًا صافيًا، وصحّةً طيبة، ولياقةً ومرونةً عاليتين.
أما الجانب الذي أحبّه أكثر، فهو حين تخبرني جدّتي عن موسم الحصاد.
كانت الأهازيج تملأ الحقول، تشبه الدعاء أكثر من الغناء:
طِبيقٍ طبّق الله الثمر
أخزى الله من كفر
سارق الزكاتين والعَشِر
وفي وقت الصريم، تُقال أهازيج حماسية بنغمةٍ عالية وسريعة:
شَمسْ يا غاربة عاد لي مَناوي
عادني باتسوق سوق جاوي
وأشتري التمر ذا طعمه يداوي
أو
وليا سَرَتْ سَرَتْ ولَمْ تَقيِّلي
سَمْحات الأيدي عُوْج الأرجلي
كانت تلك الأهازيج الذاكرة التي تحفظ القيم وتضبط المعنى، فالكلمة في القُرى لا تُقال عبثًا، بل تخضع لميزانٍ دقيقٍ قُيّد بقولهم: «لا كثير يُنقد، ولا قليل يُفقد»، وهي قاعدة تخبرنا أن ما يُقال يجب أن يكون نافعًا كالزراعة التي تُثمر.
وهذا لا يقتصر على الأهازيج فقط، فحين يجتمع الناس في المجالس، يبدأ الحديث بعبارةٍ مألوفة:
«علمي عفاكم…»، وهذا افتتاحٌ يعلن أن ما سيُقال هو علمٌ موثوق لا حكايةَ تسلية. وبهذا البروتوكول الفطري يُضبط الكلام، ويُفصل بين الجدّ واللهو، وبين التجربة والرأي. فلا يُزاد في القول، ولا يُروى إلا ما له وزنٌ ومعنى.
ذلك الانضباط جعل الذاكرة الشفوية انتقائيةً ومركَّزة؛ تحفظ ما يهمّ الناس في معاشهم، وتُهمل ما لا طائل منه؛ تحفظ مواقيت المطر، وطرائق الزراعة، وحكايات الصبر، وتترك الزوائد حتى لا يثقل الذهن ولا تبهت الحكمة.
وربما ما نفتقده اليوم ليس طعامهم ولا هواءهم، بل إيقاعهم، ذلك النسق البسيط والمنضبط الذي منحهم اتزانًا داخليًّا يشبه انتظام الفصول. فذلك التوازن بين الحركة والمعنى ربما هو ما حفظ لهم صحتهم وذاكرتهم، وهو ما نفتقده نحن في زمنٍ كثرت فيه الأصوات وقلّ فيه الصمت، ففي الحقل، كان الجسد يعمل بقدر حاجته، والعقل يحفظ ما ينفعه، واللسان لا يقول إلا ما له وزن.
كأننا فقدنا الإيقاع الذي كان يربطنا بما حولنا.
وأخيرًا… رحلت بنت أحمد -رحمة الله عليها- وبقي الشاي بالنعناع ذكرى حيّة، ورابطًا شرطيًّا يعيدني إليها في كل رشفة، ويذكّرني بحكاياتها وتجاربها، وكيف مرّرتها لي كما تُورّث الأرض سرّها لمن يحرسها بالحبّ والوفاء.
حل القهوة: وقت مبكر قبل صلاة الفجر .
عثّري: ري المزارع بالاعتماد الكلّي على المطر، من دون تدخل بشري. وتُسمى في مناطق أخرى الزراعة البعلية.
العِلّا: طريقة ري المزارع بالمجهود البشري، يُستخدم فيه الثور لاستخراج الماء من البئر، ثم يُوزَّع هذا الماء بنظام دقيق ومتقن.
النُّوب: يمكن القول أنها وردية عمل على البئر لري المحاصيل، وتحصل باتفاق بين أهل القرية لضمان التوزيع العادل.
القرص: أي قرص الخبز، ويُخبز على التنور الجنوبي، وهو يشابه الباكيت الفرنسي.
الجرين: جمعه جرن، وهو مكان منبسط ومرتفع وسط القرية، تُجفَّف فيه المحاصيل وبعض أنواع الفواكه.


في هذا التسجيل من شريط الدكتور سعد الصويان، لقاء مع الراوية حمد بن شبيب السبيعي، بتاريخ 16 جمادى الأول 1403ھ - 1 مارس 1983م.
في مثل هذه الأيام من كل سنة يكون العرب في انتظار «الوسمية»، وهي أمطار فصل الوسم المُنبتة للنبت والزرع بعد الله. يروي شبيب قصيدة الشاعر دشري بن حسن في المرابيع... وهي من أكثر المواضيع سعادةً في الطَرق والغناء عند العرب؛ يفرحون بالمطر ويتباشرون بالوسم.
ثامر السنيدي
ادّخر بذكاء من كل عملية شراء 🧠
كل ريال تنفقه يمكن أن يصنع فرقًا في مستقبلك المالي. «ادخار سمارت» من stc Bank حساب ادّخاري يعطيك 4% أرباح سنوية وتقدر تسحب فلوسك بأي وقت! ادّخر اليوم، واستثمر في غدك مع
«ادخار سمارت».

وإن كان خصمك قرد؟
في عام 2023 طلعنا نصوّر فِلم طاوي الريثي، وهو مزارع من رجال الحِجر. عنده مزرعة شامخة عالية في راس الجبل. طاوي يعيش في قرية الشامية، جار لأبو سلمان «بن كلفوت»، وقد سولف عنه الصديق محمد السعدون في عدد سابق.
ما لكم بالطويلة... الشيء اللي فارق في مزرعة طاوي، مو قلّ الأمطار، ولا الرياح والحر. عدوه الأول كان القرد، تهجم عليه بالليل والنهار، وتكسّر أشجار البن والذرة، وتعيث بالأرض الفساد وتسري.
- يا طاوي ليه ما تسمّمها؟
- الله ربّي وربّها! ما أسممها، وأتكل على الله.

ثامر السنيدي




ورشة بدر الحمد، خبير التعليق والترهيم بالزلفي. إذا تبي علم حقيقي بترهيم مكاين اللكزس وغيرها، ونظام تعليق سيّر على ورشة المبتكر وخذ لك معاه سالفة وعلوم عن تجربته وخبرته
عندك كروكي تحب نزوره؟
شاركنا توصيتك ✉️محمد السعدون



الذاكرة السعودية بالنص والصوت والصورة، في نشرة بريدية نصف شهرية، تعيد اكتشاف الثقافة المحلية وارتباطها بالعالم.