فنُّ المشي في الحارة

زائد: نشوفك السنة الجاي ❤️👋🏻

في نشرة أها!

اليوم هو العدد الأخير لنشرة أها! في عام 2025. ونلتقيك ان شاء الله صباح الأحد الرابع من يناير عام 2026! 🥳

إيمان أسعد


رسم: الفنان عمران
رسم: الفنان عمران

فنُّ المشي في الحارة

سارة بن حميد

في طفولتي، كنت أظن أن الصداقة الحقيقية تُقاس بعدد الخطوات التي نمشيها سويًّا، فأرى أن الصداقة تُعرَف بالمشي، لا بالمجالسة؛ فمن مشى معك، أطال الوقوف عندك، ومن رضي خطوتك رضي قلبك. ولم تكن «الجلسة» عندي ذات بال، أمّا قول: «يلا نمشي؟» كانت إعلانًا صريحًا لبداية علاقة وثيقة، وأجمل صداقاتي بدأت بمشهد صديقة تمسك بمريولها المدرسي، وباليد الأخرى تلوِّح لي من آخر الممر. 

كنا نمشي في الفسحة ولا نبتغي شراء طعام، ولا نطلب مقصدًا، وإنما نمضي حيث تمضي أقدامنا. الطريق واحد، والحديث يتبدَّل، وإيقاع الخطوات يتغيَّر، فتارة نمشي على عجلٍ وتارة على مهلٍ. كنّا نعتقد في صغرنا أن التي تمشي معك في الفسحة هي صديقتك الحقَّة، ثم طال بنا الزمن، فعرفنا أن المشي يختبر الصداقات ويقوّيها، وأنه ليس مشي الأقدام وحده، بل المشي في طرق الحياة الوعرة، والواسعة، التي تأخذنا بعيدًا عن بعض برغم خطواتنا المتفقة.

وفي السفر خاصة، أحب أن يكون يومي على هذا النحو: أفرغ من الإفطار، ثم أخرج أمشي في المدينة على تؤدة. لا أتعقَّب معالمها المشهورة، ولا أستعجل الوصول إلى شيء بعينه، وإنما أترك نفسي للمشي، كأنني أستدلُّ به على المدينة وأهلها. أمضي في الأزقة، وأتأمل الناس والمتاجر، والأبواب والنوافذ، وأقف عند المقاهي الصغيرة التي لا تُرى من بعيد. يعجبني منها ما كان بسيطًا، وهادئًا، فيه طاولة خشبية، ومقعد خالٍ، ونافذة تُشرف على شارع يمرُّ به الناس ذهابًا وإيابًا. وفي الغالب أجمل الأشياء التي حظيت بتجربتها تكون من خلال استكشافي أثناء مشيي، بعيدًا عن الأماكن التي تتصدَّر القوائم وتتناقلها التوصيات.

المشي بلا غاية

نحن اليوم في زمن سريع يطلب الإنجاز دومًا: نمشي لنصل، نمشي لننجز، نمشي لنحسِب الخطوات. لكن السؤال الحقيقي هو: هل جرَّبت يومًا أن تمشي لتَمشي فقط؟ بلا غاية، بلا ساعة ذكية، بلا وجهة محددة. أن تخرج بدافع الفضول وحده، تاركًا للحارة أن تقودك. هذا النوع من المشي، الذي نتجوَّل فيه بلا سبب، بلا خريطة ولا نهاية واضحة، بل خطوات تتوالى، هي التي تقودنا في الغالب إلى أبعد نقطة داخل أنفسنا.

في مقالة بعنوان «فن المشي الشارد» (The Art Of Aimlessly Walking)  تستكشف إميلي فنَّ أن تكون «منفردًا تائهًا» (Solivagant) أو «متجوّلًا وحيدًا»، قائلة: «ليس كل من يهيم على وجهه ضائع». ثم تسرد من تجربتها كيف صار هذا التمشِّي المنفرد بابًا إلى التأمُّل، وكيف أورثها وعيًا أصفى بذاتها، وانشراحًا لم تكن تعرفه من قبل.

ولعمري، إنّي بعد خطواتٍ لا أحصي عددها، وجولاتٍ لا أذكر بدايتها، أفهم الآن ما أرادت قوله. ويؤيد هذا المعنى ما ذكره دافيد لوبروطون في كتابه «الحياة مشيًا على الأقدام»، إذ قال: «التمشِّي مع الغير مديحٌ للمحادثة والتفرُّغ للشخص الآخر، أما المشَّاء المنفرد، فإنه يكون في مكانٍ واحد، منفتحًا على ما يعرض له، منغمسًا في شروده، مسترسلًا في حوارٍ باطن لا ينقطع. والمشي، في حقيقته، مطالبة بالتؤدة، وبإيقاعٍ يخصُّ الذات وحدها.»

ولهذا كان المشي بلا وجهة فعلًا محرّرًا؛ إذ متى كففنا عن محاولة الوصول، انكشف لنا العالم على حقيقته. نرى تشققات الأرصفة التي طالما عبرناها دون نظر، ونسمع تغريد العصافير التي كانت تملأ المكان ولا تبلغ السمع، ونرقب الضوء وهو ينعكس على المباني. ونفطن فجأة إلى أن البيت الذي نمرُّ به كل يوم له نافذة لم نرها من قبل، وأن الباب المهترئ قد يصير مشهدًا شاعريًا إذا صادفه غروب حسن. وهكذا تتحوَّل الحارة إلى كتابٍ مفتوح، وتغدو النظرة نفسها «عدسة شاعرية» تجعل كل شيء قابلًا للدهشة.

مشاهد تأسرني وتستوقفني في كل مرة أخرج فيها للمشي. ♥️📸

وليس بعيدًا عن هذا المعنى ما حكاه الشاعر سالم المرواني في  حلقة سابقة من بودكاست «ذا قال»، إذ ذكر أن سبب كتابة قصيدته كان مشيًا أطال فيه النظر، حتى وقع بصره على بيتٍ نبت على بابه عشب، فقال:

وإذا نبت عشب التجافي على الباب

ما سيّروا بعض العرب من هنيّا؟

الغربة إنه حط من دونك أغراب

ما صح نسيانه ولا تهيّا!

لم تخطر له هذه الأبيات وهو جالس في منزله، ولا وهو يعمد إلى الكتابة عمدًا، وإنما خرجت منه لأنه خرج إلى الحارة، فأبصر ما كان يمرُّ به الناس دون التفات. وهذه التفاصيل حاضرة أمام أعيننا على الدوام، غير أننا لا نراها إلا حين نمشي، ولا سيّما حين نمشي بلا هدف. نعم، بلا هدف؛ فهنا يبلغ المشي فنه، ويهب الأشياء معاني جديدة لم تكن لتُدرَك بغيره.

المشي الطويـــــل

ليس عجيبًا أن يكون المشي بابًا من أبواب التعافي، وقد قال ابن سينا: «مسكّنات الأوجاع: المشي الطويل». وما ذاك إلا لأن الحركة إذا طالت رقَّ معها الثقل، وخفَّ ما في النفس من كدر. وكان المشي الطويل أحبّ الرياضة إلى الرافعي، إذ يروي الزيات في مجلة الرسالة متعجبًا من حاله: 

«خرجت مرة في جماعة من صحبي يوم شم النسيم للرياضة بُعيْد الفجر، وكان معنا ماؤنا وطعامنا وقد عزمنا أن نقضي اليوم كله في الخلاء، فلما صرنا على بعد ميل من المدينة والشمس لم تشرق، لمحت الرافعي على بعد يخب في مشيته على حافة قناة بين زرعين؛ فلما دنوت منه رأيته يميل فيبلّل كفيه بأنداء الفجر على أوراق البرسيم فيمسح بها وجهه وهو مغتبط مبسوط؛ وأقبلت عليه أسأله، قال: هذه رياضة تحلو لي كثيرًا، فما أتركها إلا لعارض، بل إني ليطيب لي أحيانًا أن أخرج من البيت قبل الفطور لأجول هذه الجولة، ثم أعود لأفطر وأخرج إلى الديوان.»

ومع الأيام، أظنني بدأت أفهم الرافعي أكثر، ثم أيقنت بعد ذلك أن الحارة، بما فيها من أحجار صامتة، وأبواب قديمة، وشوارع متعرّجة، هي أصدق ما يعيد الإنسان إلى الالتفات لأصغر الشؤون وأكبرها؛ تلك الأمور التي نمرّ بها في العادة دون انتباه، أو نكاد نغفل عنها لكثرة ما ألفناها. وليس ثَمَّ مكانٌ يتعلّم فيه المرء فنَّ المشي كما يتعلَّمه في الحارة. وللمشي في الحارة أمزجة تختلف باختلاف الأوقات، وله مواقيت يصفو فيها المعنى، وأجملها -في ظنِّي- ثلاثة:

أوَّلها قبيل الغروب، حين تخف الشمس عن شدَّتها، وتأخذ الشمس لونًا ذهبيًّا، فيغدو المشهد -مهما بدا عاديًّا- ذا نظرة شاعرية.

وثانيها الصباح الباكر، وهو وقت يوقِّع فيه الإنسان صلحًا صامتًا مع نفسه؛ الشوارع شبه خالية، والأصوات قليلة، والعالم كأنه يمنحك فرصة جديدة.

وثالثها بعد المغرب بقليل، حين تُفتَح البيوت للنسيم، وتمتزج روائح العشاء بأصوات خطوات الأطفال في الممرَّات؛ مشيٌ يعلِّمك، من حيث لا تشعر، أنك جزء من حياة كاملة تتحرَّك حولك، وإن كنت عنها غافلًا.

المشي أسلوب حياة 

غير أنّي، لو كان لي أن أترك لك وصية، لما قيّدت المشي بوقتٍ من هذه الأوقات، بل أقول لك: امشِ حين يدعوك المشي، ودع الخطوة تقودك كما تشاء. وكن، في ذلك، على معنى ما قال خلف بن هذال، وخذ أبياته مبدأً في هذه الحياة، ولا سيّما ونحن نستقبل فصل الشتاء:

أمشي تحت غرّ المزون الروايح

‏هذا هواي ورغبتي واشتياقي

كل الحياه أحلام والعمر رايح

¹‏طرقي بهالدنيا وغيري طراقي.

  1. «طرقي»: لفظة شعبيّة، مأخوذة من طريق، ويُقصَد بها عابر السبيل.



ادّخر بذكاء من كل عملية شراء 🧠

كل ريال تنفقه يمكن أن يصنع فرقًا في مستقبلك المالي.

«ادخار سمارت» من stc Bank حساب ادّخاري يعطيك 4% أرباح سنوية وتقدر تسحب فلوسك بأي وقت!

ادّخر اليوم، واستثمر في غدك مع «ادخار سمارت».



نشرة أها!
نشرة أها!
يومية، من الأحد إلى الخميس منثمانيةثمانية

نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.

+30 متابع في آخر 7 أيام